سورة ق - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} يعني الناس، وقيل أدم. {وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم، فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت *** كما استعان بريح عشرق زجل
وقد مضى في الأعراف. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب، أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة.
وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه.
وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شي. قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ} أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة، وتوكيدا للأمر عليه.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: {الْمُتَلَقِّيانِ} ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
وقال مجاهد: وكل الله بالإنسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ}.
وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة، قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر». وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن مقعد ملكيك على ثنيتك لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما».
وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال: {قَعِيدٌ} ولم يقل قعيدان وهما اثنان، لان المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه، ومنه قول الشاعر.
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف
وقال الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى *** وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخرا تساعا، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و{قَعِيدٌ} بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد.
وقيل: {قَعِيدٌ} بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مواكل ومنادم.
وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، كقوله تعالى: {إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ}.
وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي:
الكنى إليها وخير الرسو *** ل أعلمهم بنواحي الخبر
والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم. قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه، مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم.
وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور.
الثاني أنه الحافظ، قاله السدي.
الثالث أنه الشاهد، قاله الضحاك.
وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب.
الثاني أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ، وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} وفرس عتد وعتد بفتح التاء وكسرها المعد للجري. قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:
لئن كنت مني في العيان مغيبا *** فذ كرك عندي في الفؤاد عتيد
قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه.
وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يو جربه أو يؤزر عليه.
وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة».
وقال علي رضي الله عنه: إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل ابن عبد الله قال: سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الامة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الامة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للآخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فإذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}» غريب من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة». قوله تعالى: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي غمرته وشدته، فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده.
وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق، فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما، لان السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين.
وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى، أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت.
وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت، ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: {وجاءت سكرة الحق بالموت}. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ***
فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات.
وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت بين يديه ركوة- أو علبة- فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده». خرجه البخاري. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة».
وقال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين أدعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة يعني سكرات الموت. وروي: إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض. {ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت، لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الاخبار عن نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه، قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته *** وحدت كما حاد البعير عن الدحض


{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}
قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هي النفخة الآخرة للبعث {ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} أختلف في السائق والشهيد، فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل، رواه العوفي عن ابن عباس.
وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل.
وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها.
وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها.
وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان ابن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} سائق: ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها. قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا أخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أو دخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}». قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} قال: «حالا بعد حال» ثم قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم» خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور.
الثاني أنها خاصة في الكافر، قاله الضحاك.
قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ} قال ابن زيد: المراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم.
وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم.
وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري.
وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد، لان هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ} أي عماك، وفية أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد، قاله السدي.
الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس.
الثالث وقت العرض في القيامة، قاله مجاهد.
الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} قيل: يراد به بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه، فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الاشخاص والأجسام.
وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد، أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقاله الضحاك.
وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرئ: {لقد كنت} {عنك} {فبصرك} بالكسر على خطاب النفس.


{وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)}
قوله تعالى: {وَقالَ قَرِينُهُ} يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. {هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ.
وقال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله.
وقيل: المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين.
وقال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه: إنه قرينه من الانس، فيقول الله تعالى لقرينه: {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ} قال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، واصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:
خليلي مرابي على أم جندب *** نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال أيضا:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال آخر:
فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر *** وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل: جاء كذلك لان القرين يقع للجماعة والاثنين.
وقال المازني: قوله: {أَلْقِيا} يدل على ألق ألق.
وقال المبرد: هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب {أَلْقِيا} مناب التكرار. ويجوز أن يكون {أَلْقِيا} تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين.
وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ.
وقيل: إن الأصل ألقين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن {ألقين} بالنون الخفيفة نحو قوله: {وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} وقوله: {لَنَسْفَعاً}. {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}
أي معاند، قاله مجاهد وعكرمة.
وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق، يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} يعني الزكاة المفروضة وكل حق واجب. {مُعْتَدٍ} في منطقه وسيرته وأمره، ظالم. {مُرِيبٍ} شاك في التوحيد، قاله الحسن وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ}.
وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. {فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ} تأكيد للأمر الأول. {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ} يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. {وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير اختلاف. حكاه المهدوي.
وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك، وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته.
وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة، فحينئذ يقول الله تعالى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} أي أرسلت الرسل.
وقيل: هذا خطاب لكل من اختصم.
وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قيل هو قوله: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها} وقيل هو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
وقال الفراء: ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. {وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي ما أنا بمعذب من لم يجرم، قاله ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في الحج وغيرها.

1 | 2 | 3 | 4